ما الذي دفع أسعار النفط إلى الهبوط على هذا النحو من ما يقارب 115 دولارًا للبرميل في منتصف عام 2014 قبل بداية الأزمة لتصل إلى 29 دولارًا للبرميل في بداية العام الجاري.
أدت ثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة إلى حلولها محل السعودية ودول منظمة أوبك كمنتِج يستطيع التحكم في الأسعار
كأي سلعة يتم تداولها تداولًا حرًا خاصةً في سوقٍ عالمية مفتوحة تتوقف أسعار النفط على التناسب بين العرض والطلب، بحيث ترتفع الأسعار إذا ازداد الطلب بدون زيادة العرض وتنخفض إذا زاد المعروض بدون زيادة مقابلة في الطلب. علاوةً على ذلك، يعتمد الطلب على النفط على النمو الاقتصادي بمفهومه الواسع، حيث يزيد الطلب على السلع مع زيادة الدخول وبالتالي يزيد الطلب على النفط لإنتاج المزيد من البضائع ونقلها إلى المستهلكين، الذين يزداد أيضًا استهلاكهم للنفط في أغراض التنقل والتدفئة وغيرها.
بذلك اتحدت ثلاثة عوامل مؤثرة على سوق النفط العالمي لتنتج عاصفة مكتملة الأركان:
اولاً: زيادة كبيرة في الإنتاج العالمي من النفط
حسب النشرة الإحصائية السنوية التي تصدرها شركة BP ففي عام 2014 زاد الإنتاج العالمي من النفط بمقدار 2.1 مليون برميل/يوم، وهو ما يتجاوز ضعف متوسط زيادة الإنتاج في الأعوام العشرة السابقة. أدت ثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة إلى زيادة الإنتاج على مدى عدة أعوام، وصلت إلى ذروتها عام 2014 حين بلغ الاستثمار في صناعة النفط الصخري حوالي 120 مليار دولار، وهو أكثر من ضعف قيمته منذ خمسة أعوامٍ فقط. أدى ذلك إلى تحقيق أكبر ارتفاع في تاريخ صناعة النفط الأمريكية بزيادة الإنتاج بمقدار 1.6 مليون برميل يوميًا، لتكون الولايات المتحدة صاحبة أكبر نمو في الإنتاج وبفارق كبير عن كندا (315 ألف برميل/يوم) والبرازيل (232 برميل/يوم) في المركز الثاني والثالث، ولتصبح الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم؛ فيما ظل إنتاج دول منظمة أوبك في نفس المستوى تقريبًا (36.6 مليون برميل/يوم)
نتيجة للزيادة الكبيرة في انتاج النفط بالولايات المتحدة انخفضت الوارادات الأمريكية إلى أقل من نصف ما كانت عليه عام 2005، وبذلك لم تعد الولايات المتحدة أكبر مستورد للنفط في العالم وانتقل ذلك اللقب إلى الصين. أيضًا استمر الغاز الصخري في النمو بقوة، وبلغت نسبة الإنتاج الأمريكي 80% من إجمالي الزيادة العالمية في إنتاج الغاز. نتيجة ما سبق غطى الإنتاج الأمريكي ما يصل إلى 90% من الاستهلاك الأمريكي للطاقة، وهو مستوى لم يصل إليه منذ منتصف الثمانينيات.
في الفترة ما بين عامي 2011 و2013 وازنت الزيادة الأمريكية في إنتاج النفط النقص في الإنتاج القادم من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا خاصةً من ليبيا بحيث لم يتجاوز نمو الإنتاج العالمي 1 مليون/يوم في المتوسط، وهو ما كان يوازي الاستهلاك العالمي. انتهى ذلك التوازن عام 2014 مع تحقيق الدول المنتجة للنفط خارج أوبك (وعلى رأسها الولايات المتحدة) زيادة استثنائية في الإنتاج وانخفاض نمو الاستهلاك مقارنةً بعام 2013 مما أدى إلى وفرة كبيرة في المعروض من النفط
ثانياً انخفاض نمو الطلب العالمي
تعد الولايات المتحدة والصين واليابان والهند وروسيا الدول الخمس الأكثر استهلاكًا للنفط، بجانب بلدان الاتحاد الأوروبي إذا احتسبت ككتلةٍ واحدة. لم تظهر أي من تلك الدول أو الاتحاد الأوروبي نموًا اقتصاديًا كبيرًا في الأعوام القليلة الماضية، بل إن أحدها، وهي روسيا، شهدت ركودًا اقتصاديًا عام 2014. تحظى الصين على وجه التحديد بتركيز صناعة النفط لأنها أكثر الدول التي تحقق نموًا من بين الاقتصادات الأكثر استهلاكًا للطاقة.
لكن التطورات في الصين جاءت مخيبةً للآمال. انخفض معدل نمو الناتج المحلي إلى 7.4%، وهو وإن كان مرتفعًا بالنسبة للدول الأخرى إلا أنه جاء أقل من معدلات النمو التي كانت تتجاوز 10% والتي حققتها الصين في السنوات العشر الأولى من هذا القرن. اقترن هذا الانخفاض باستمرار التغير في نمط النمو، حيث انخفض الاستثمار العقاري والصناعي بشدة. نتيجةً لذلك انخفض النمو في أكثر القطاعات كثافةً في استهلاك الطاقة مثل صناعة الحديد والصلب والأسمنت -وهي الصناعات التي ازدهرت خلال مرحلة التصنيع- بنسبةٍ هائلة، بينما حلت محلها في الصدارة القطاعات الخدمية من الاقتصاد.
أدى ذلك التغير في نمط النمو الاقتصادي إلى انخفاض نمو استهلاك الطاقة الصيني إلى 2.6% عام 2014، وهو أقل من نصف متوسط النمو خلال السنوات العشر السابقة (6.6%) وأقل معدل نمو منذ التسعينيات. كان مقدار نمو الاستهلاك الصيني من النفط 390 ألف برميل/يوم.على الصعيد العالمي نما الاستهلاك العالمي من النفط بمقدار 0.8 مليون برميل/يوم، اعتمدت بالكامل على زيادة الاستهلاك خارج منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (التي تضم البلدان المتقدمة) والتي بلغت 1.3 مليون برميل/يوم، لتعوض انخفاض استهلاك دول المنظمة بمقدار 500 ألف برميل/يوم.
ثالثاً زيادة التركيز على القضايا البيئية والمناخية
من المرجح أن يكون للتحضيرات لمؤتمر التغير المناخي بباريس والمخاوف البيئية مع الإعلان عن مبادارت لتقييد استهلاك الوقود الأحفوري خاصةً في الولايات المتحدة والصين، جنبًا إلى جنب مع التطورات التكنولوجية والتفضيلات المجتمعية للوقود النظيف تأثير على مزيج الوقود المستخدم في العالم ودور الوقود غير الحفري.
أدى عدم التوازن بين الزيادة الكبيرة في الإنتاج العالمي وانخفاض نمو الاستهلاك إلى زيادة مخزونات النفط بدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بمقدار حوالي 150 مليون برميل خلال عام 2014، كما استمرت الزيادة خلال عام 2015 تاركةً خزانات النفط حول العالم ممتلئة بالنفط الفائض عن الحاجة، مما تسبب في هبوط أسعار النفط من 115 دولار للبرميل لخام برنت في منتصف عام 2014 إلى حوالي 60 دولارًا بنهاية العام وليستمر في الانخفاض خلال عام 2015 ليصل إلى 29 دولار في أوائل عام 2016.
كان من المفترض أن تتدخل دول منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) وتقوم بخفض إنتاجها لتقليل المعروض في السوق العالمي ورفع الأسعار، أو على الأقل هذا ما كان يحدث من قبل عندما تقع أزماتٌ مشابهة، لكن ذلك لم يحدث. انتهى اجتماع المنظمة في نوفمبر 2014 بضربةٍ قوية لسوق النفط، بدلا من خفض الإنتاج قررت دول أوبك استمرار معدلات الإنتاج المتفق عليها مسبقًا، وأبدت السعودية تحديدًا لا مبالاتها بانخفاض الأسعار واستعدادها للاستمرار في ضخ النفط حتى إذا تسبب ذلك في خسارتها، في محاولةٍ لإخراج منتجي النفط الصخري ذوي تكلفة الإنتاج المرتفعة من السوق والحفاظ على حصتها.
على الرغم من أن صناعة النفط الصخري أثبتت مرونة كبيرة في وجه انخفاض الأسعار، إلا أن الاستراتيجية التي اتبعتها أوبك، والسعودية تحديدًا، بدأت تؤتي ثمارها مع الوقت. قال بنك الاستثمار الفرنسي ناتيكسيس إنه يتوقع أن ينخفض الإنتاج الأمريكي من النفط بمقدار ما بين 500 ألف إلى 600 ألف برميل/يوم هذا العام مقارنةً بعام 2016، وبمقدار 500 ألف برميل أخرى عام 2017.
لكن انتهاء الأزمة قريبًا لا يزال مستبعدًا، حيث يتم إنتاج ما بين مليون إلى 2 مليون برميل يوميًا زيادة عن الطلب في الوقت الحالي، كما تمتلئ خزانات النفط بكمياتٍ كبيرة تم تخزينها من ذلك الفائض على مدى العامين الماضيين. علاوةً على ذلك، أدى دخول الاتفاق النووي مع إيران حيز التنفيذ إلى عودة إيران إلى السوق العالمية للنفط ومحاولتها الرجوع إلى مستويات إنتاج وتصدير ما قبل فرض العقوبات، ما نتج عنه ضخ المزيد من الإنتاج في سوقٍ متخمٍ بالفعل بالمعروض. كذلك أدى إصرار إيران على زيادة إنتاجها واستعادة حصتها من السوق العالمية إلى فشل اتفاق دول أوبك على تجميد الإنتاج في الدوحة الأسبوع الماضي، بعد أن رفض السعوديون التوقيع على أي خطة تجميد إنتاج لا تتضمن إيران، التي لم تبال بإرسال وزير النفط إلى الاجتماع من الأصل.
في النهاية من المهم الإشارة إلى أنه حتى إذا استقرت أسعار النفط في المستقبل القريب فإن ذلك لا يعني أن سوق النفط ستعود إلى سابق عهدها بنفس توازن القوى الذي حكمها لعقود. أدت ثورة النفط الصخري في الولايات المتحدة إلى حلولها محل السعودية ودول منظمة أوبك كمنتجٍ يستطيع التحكم في الأسعار Swing producer. مع انخفاض إنتاج الولايات المتحدة من النفط وعودة الأسعار إلى الارتفاع تستطيع الشركات الأمريكية العودة إلى زيادة الإنتاج عند وصول السعر إلى مستوىً مناسب، لتقوم بخفضه مجددًا عند انخفاض الأسعار. بتولي الولايات المتحدة الدور الذي ظل حكرًا على منظمة أوبك منذ عقود يمكن الجزم بثقة بأنه أيًا كان ما ستنتهي إليه أزمة النفط الحالية فإنها كانت بداية مرحلة جديدة من توازن القوى، في سوق النفط وخارجه، مع كل ما سيتبع ذلك من آثارٍ سياسية واقتصادية نشهد الكثير منها بالفعل في الوقت الحالي.
المصدر: موقع المؤسسة العامة للنفط